
ألوان على الماء
- 2019-Jul-16
كنت ارمق صغيرتي وهي تلعب بألوانها الحمراء والخضراء المتعددة ونحن على بركة ماء في لندن حين سقط منها احد الألوان في عمق البركة وكنا نراه وهو يذوب، ويرسم خطوطا طويلة ملونة جميلة ...وسرعان ماذاب القلم.. فعمدت صغيرتي الى قلم اخر بلون اخر تكتب به.... وكنت وقتها أفكر في ذوبان هوية المسلمين في اوروبا.... ترى هل يمكن ان تذوب هوية ابنائنا وبناتنا كما تذوب الالوان في الماء...كانت بيدي مسودة لمقالة زميل غربي يلح فيها ان الاسلام لا يمكن ان يحمل هوية اوروبا لأنه دين صحراوي... وبعد نقاش طويل خلصنا الى ان الهوية هي حوار بين حالة نفسية ومرتكز ديني؛ يفسر أحدهما الثاني اعتمادا على فهم حقيقة مقاصد النصوص وفهم حالة من يريد ان يطبق النص بشكل صحيح او ما يسميه الفقهاء "علاقة المكلفين بأفعالهم العملية". واحسب انه قد اقتنع بما اقول.
حديثي هنا عن هوية الالوان لا اقصد به العدد القليل من مثقفي الجامعة الذين اعيش بينهم بل هو مراجعة لبعض الشوارع التي مررت بها في خلال حياتي كأستاذ درس مادة الفلسفة والعلوم الاسلامية خلال اربعين عاما مضت ما بين جامعة ويلز ولندن.
ومشكلة الهوية وذوبان الوانها هي المشكلة الاولى التي وجدتها ويجدها كل مسلم ممن قدر لهم ان يعيشوا في غرب الارض. وهي تتجسد أكثر ما تتجسد حين ترى الصغار وقد كبروا، وهم يسألوا أنفسهم هل نحن بريطانيون ام عرب؟ ...فترى عيونهم حائرة في لعبة الحياة كحيرتهم مع لعبة كرة القدم حين يتنافس فريق عربي مسلم، وفريق بريطاني وتجدهم في حيرة مشابهة في كل الالعاب السياسية التي يلعبها العالم اليوم؟ ولعل أحسن رد سمعته من ابنتي الكبرى وهي تقول.. ان اكون انسانة ذات وطنين هو مدعاة فخر لي. لأني اجمع بين حضارتين كمن يمتلك بيتا للربيع واخر للشتاء. وكم اتمنى ان يكون الامر بهذه البساطة. فالإنسان يحن للشتاء وقت الصيف، ويحلم بالصيف حين يهبط الثلج، وتصبح كل العصافير بلا منازل. وهو لا يحب شيئا كحبه للربيع...وربيع العمر هو الذي يخطط شخصية الانسان كما يرسم الفنان خطوط الصورة قبل ان تغمرها ألوان الحياة. ولا شك أننا نحن الآباء مسؤولون عن طمس هوية ابنائنا...ما لم ندرك حقيقة هويتنا. اننا اوربيون من اصول عربية وديننا الاسلام. وهذا نفس ما يقوله الأيرلندي والويلزي في انجلترا فيذكر أصله ويؤكد مكان توطّنه فيحترمه الاخرون.
وحديث الهوية يطرح سؤالا ما أكثر ما يطرح اليوم وبريطانيا تكتب سفر خروجها من بوابة اوروبا:
هل نحن عرب بريطانيون ام أوروبيون؟ ...انا اقول دوما انا عربي أوربي مسلم يسكن بريطانيا.. وسأبقى اقولها.. حتى لو خرجت بريطانيا من اوروبا لان الاوروبية هي حالة نفسية تشعر صاحبها بالانتماء طالما وجد على ارضها دون ان ينسى الجذور.
ان احساسي بأوربيتي هو نفس السبب الذي دفعني اليوم- رغم فيروسات الزكام- الى الذهاب الى صندوق الاقتراع لأصوت كأوربي على من سيمثلني في برلمانها ويبقي بريطانيا فيها.
ثم يأتي من يأتي من سفهاء المسلمين ليقتلوا الأبرياء، ويسمموا الهواء، ويقولوا لنا نحن مسلمون مثلكم...اي اسلام هذا الذي يبيح قتل النفس بغير حق؟ نقول لا يمكن لأي مسلم ان يقبل بهذا لا دينا ولا مرؤة وخاصة نحن المسلمون في أوروبا. فأوروبا اوتنا واطعمتنا وسمحت لناببناء مساجدنا وفتحت لنا مدارسها وجامعاتها فكنا لأبنائها اندادا ولكتابهم ومفكريهم اترابا ونقادا.
اعود لحديث الالوان.:
لا شك إن هناك الكثير من الحروف التي تكتب بها هوية الإنسان ..
واللغة هي أوضح حرف من هوية الغريب وربيع عمره يبرعم من بين مفرداتها.. وهي المشكلة الكبرى التي يجابهها كل القاطنين في غرب الارض من متجنسين أو مقيمين، أو طلاب للدراسة فيها. واللغة الانجليزية هي سهل ممتنع. هي سهلة لمن يريد ان يمارسها بمستوى الحوار اليومي كالتسوق والتنقل.. اما الكتابة فيها فهو امر اخر خاصة لو كنت تكتب بمستوى أكاديمي عال تناقش فيها الاخرين وتحاججهم وتنافسهم فالإنجليزية هي لغة تقل فيها الجذور والمفردات ولا تطاوع قلم الكاتب الا بكثرة الممارسة لها.. والرقي التعبيري فيها قد يناسب الحساب اكثر من الادب وهي لاشك بائسة الجمال والتعبير لو قيست بلغة القرآن لكنها لغة تمتاز بقدرتها على تطوير نفسها، فتبتكر المصطلحات ولا تبالي بخلط جذور المصطلحات لتقدم ما هو جديد ومعبر وكثيرا ما تجمع بين ما هو تافه وراق لتعوض عن قصور مفرداتها في التعبير بعكس اللغة العربية التي تمتد بناءاتها ومفرداتها لتحتضن المعنى؛ كالأرض حين تختلط بالماء الجاري لتسقي به الحرث والنسل. والقدرة على فهم روح لغة ما والكتابة فيها تعطي صاحبها هوية من نوع خاص. انها هوية تشد عضده فتمكنه من الولوج الى اعماق المعاني من خلال عيون الحروف وسيل العبارات فيعبر عما يريد ويبدع في ذلك، ومن لم يفهم تلك الروح قد يسيء الى الغاية التي يريد وهو لا يدري نتيجة لعدم فهمه للعبارات او دلالاتها. وكثيرا ما يظهر هذا في محاولة الكتابة عن الاسلام باللغة الانجليزية في غرب الارض. وانا لا ازال انصح طلبة الدراسات العليا ان يحذروا فيما يكتبون لان الكثير ممن يكتب عن الاسلام بلغة الانجليز يخاطب الناس بجرس يختلف عن جرس اللغة الانجليزية واساليب الخطاب فيها. ومن أكثر ما يميز هذه اللغة هو اسلوب الخطاب الغير مباشر الذي نادرا ما يعرفه من يكتب بالإنجليزية من العرب. وخاصة عندما يركزون على الدعوة المباشرة الى الإسلام كأنهم يلقون خطبا رنانة حين يبحثون في المواضيع العلمية الجادة. وهذا هو غير منحى شيوخ العلم كالشافعي والغزالي رحمهما الله ومنهجهما التحليلي النقدي الذي تطور مع الزمن فغير فيه الشافعي كل فتاواه حين انتقل من مصر الى العراق. ورغم ما يقوله بعض المحدثين بأن تغير الشافعي كان تغييرا لمذهبه والغاءً لفتاويه السابقة فالحقيقة في ظني ان منهجه هو نفس منهج التطور الزمني وهو الذي سيبقى ويدوم وهو تخصص داخل تخصص المناهج البحثية التي تتطور مع الزمن حيث تطرح الحقائق ويترك القارئ ليستنتج النتيجة بالطريقة التي تناسب المعاني المرسلة ضمن المعاني قطعية الثبوت والدلالة . وهذا المنهج هو من اهم اساليب الخطاب الاكاديمية التي تعلمها الغرب من علمائنا ومهروا فيه وكثيرا ما يفشل فيها كتابنا اليوم حين نقحم آراءنا على الناس دون تسبيب او تبرير. وكثيرا ما يظهر هذا عند من يترجم الاحداث وينسخها من شوارع الصحراء الى شوارع لندن وينسى أثر البيئة على فهم اللغة فيغفل عن رائحة التراب وصوت المطر. ولا شك ان دروب الصحراء يجد الانسان فيها صفاء الريح، ووضوح المنظر ولكننا لا يمكن ان نتغزل ببرد الهواء والثلج يتزحلق في الطرقات. ولا ان نتغنى بأنشودة المطر وميازيب المياه ترش وجوه الناس في الشوارع.
واخلص الى ما بدأت به ...ان هويتنا نحن الاوربيون المسلمون هي هوية صنعتها غربتنا وقومها؛ احساسنا بالتحدي الشخصي في مجتمع يحترم الانسان ويُكبِر فيه اصراره على عدم الذوبان كما تذوب الوان الاطفال على وجه الماء.
موئل عزالدين السامرائي
استاذ في جامعة ويلز
استاذ زائر في جامعة لندن