الشيخ صالح يانغ جينغ شيو وترجمته لمعاني القرآن الكريم
- 2019-Nov-03
ملخص البحث
لا يخفى على الجميع أن ترجمة الكتب الدينية تلعب دوراً عظيماً في حوار الحضارات الإنسانية والتفاهم بين أصحابها. ومن بين كتب الأديان الدخيلة في الصين، كان ظهور ترجمة القرآن الكريم متأخراً، حيث ترجم بعض العلماء الصينيين بعض السور القرآنية إلى اللغة الصينية في عصر ما بين أسرة مينغ (1368-1644) وأسرة تشينغ (1636-1912). أما ترجمة كامل القرآن إلى الصينية، فظهرت لأول مرة في عصر الصين الوطنية (1912-1949) حيث تمت عدة ترجمات، من بينها ترجمة الشيخ صالح يانغ جينغ شيو (1870-1952) المسماة بترجمة القرآن بالصينية.
أولاً: حياة صالح يانغ جينغ شيو:
أ. أسرته، طلبه للعلم وأعماله بعد الدراسة
اسم الشيخ الصيني هو يانغ جينغ شيو، ولقبه يانغ جونغ مينغ، واسمه الإسلامي صالح وهو من أهل قومية الهوي. ولد صالح يانغ جينغ شيو عام 1870م في قرية دوان آر جوانغ بمحافظة يان شان في مقاطعة خه بي، وتوفي والداه عند ما كان صغيراً، فنشأ تحت ولاية جده وجدته. وكانت حياة أسرة صالح صعبة جداً لسوء ظروفها الطبيعية، فهاجر صالح مع أهله إلى قرية شين جين التي بينها وبين مدينة تيان جين 40 كيلومتراً تقريباً، حيث أقام واستقر، فبدأت حياة صالح وأهله تتحسن يوماً بعد آخر، ما أثّر في حياته الدراسية وأعماله العلمية تأثيراً حاسماً.
ب - طلبه للعلم:
كان من عادة المسلمين في الصين إرسال الأطفال إلى المسجد ليتعلموا علوماً دينية أساسية، فدخل صالح أيام طفولته في مسجد بلده ليتعلم العربية والفارسية والعلوم الشرعية، وكان طفلاً ذكياً، يبذل قصارى جهده في الدراسة، ففاق زملاءه في الدراسة، وقيل إنه كان يكتب الشعر العربي وهو في السنة التاسعة عشر من عمره.
تعلم صالح على يد عدة من الشيوخ، منهم لي جنغ قوانغ (المتوفى عام 1889) وهاي سي فو (1832 - 1920)، وكانا خبيرين باللغة الصينية كما كانا متقنين
للغتين العربية والفارسية، فتأثر صالح بهما كثيراً، فكان يدرس اللغة الصينية ويقرأ الكتب الكلاسيكية أثناء دراسته للغة العربية والفارسية والعلوم الشرعية، كما كان يقرأ كتب الأديان الأخرى كالبوذية والكونفوشية والمسيحية، فصار عارفاً بمتعدد الأديان، وهذا نادر جداً في أوساط علماء المسلمين آنذاك وقليل في تاريخ الإسلام في الصين عامة.
ج - عمله بعد التخرج
بعد التخرج، اشتغل الشيخ صالح بالإمامة في بعض المساجد في بعض المحافظات بمقاطعة خه بي ومقاطعة لياو نينغ؛ كما رحل إلى كل من بكين وشانغهاي ونان جينغ وغيرها من المدن الكبرى، حيث ألقى محاضرات علمية وقام بمناظرات دينية مع علمائها.
وفي نفس الوقت، كان الشيخ صالح يؤلّف الكتب ويترجم الكتب الدينية إلى الصينية، كما ويقوم بتوعية المسلمين وإصلاح التربية والتعليم. ولا أكون قد بالغت إذا قلت إن الشيخ صالح صرف أيام حياته كلها في إيقاظ المسلمين وتوعيتهم.
د: إسهاماته في التربية والتعليم
كان الشيخ صالح يعيش في عهد حدثت فيه تغيرات كبرى في مجتمع الصين، وكانت مدينة تيان جين التي يعيش فيها الشيخ صالح مدينة رائدة ظهر فيها رجال ذوو أفكار جديدة من الذين ترجموا كتباً غربية إلى اللغة الصينية وأصدروا جرائد
جديدة تحمل أفكاراً جديدة أثرت كثيراً في أوساط المفكرين الصينيين.
ولما شاهد الشيخ صالح تغيرات مجتمع الصين الملحوظة، وجمود وضع المسلمين الصينيين، أصابه حزن شديد، فعزم أن يسعى من أجل إصلاح وضع الإسلام في الصين لكي يتماشى المسلمون مع تطور المجتمع الصيني.
في عام 1908م، كتب الشيخ لائحة لجمعية تربوية، حث فيها الناس على الاهتمام بالتربية الدينية والوعي الثقافي. وكان من أمنيته وأهدافه - كما ورد في اللائحة - أن يحقّق الأمور الآتية: إنشاء مدارس على ثلاثة مراحل: ابتدائية، ومتوسطة وجامعية؛ إنشاء جرائد لنشر الأخبار الجديدة؛ ترجمة كتب لفتح عقول الناس؛ تنظيم خطب ومواعظ لنشر تعاليم الإسلام؛ تأسيس مراكز علمية يقوم فيها العلماء بدراسات متعمقة؛ إنشاء مصانع لتوظيف المسلمين وللحصول على الدخل المالي الذي ينفق على تكاليف المدارس والمراكز.
ومن أجل تحقيق الأهداف المذكورة، أسس الشيح صالح جمعية التربية الإسلامية، ومع قصر مدة بقاء الجمعية، فإنها لعبت دوراً عظيماً وتركت أثراً كبيراً، فصارت لائحة الجمعية المذكورة أساس لوائح الجمعيات التي تأسست بعدها، وقال السيد سون شنغ وو عن الجمعية إنها أول جمعية إسلامية في تاريخ الصين.
هـ: مؤلفات الشيخ صالح
ما كان الشيخ مكتفياً بإنشاء الجمعيات والمدارس، ولا بإصلاح التربية والتعليم فحسب، بل كانت له يد طولى في البحث والتأليف أيضاً، حيث ترك لنا ما يقرب من عشرة كتب، منها سي ديان ياو كوه، وجونغ آ تشو خون، وخه تيه يين يي،
وخه تيه جوو شي، كما ترجم معاني القرآن الكريم وشرح التفتازاني للعقائد النسفية إلى اللغة الصينية، وغيرها من الكتب القيّمة.
ثانياً: ترجمة القرآن
أ - معلومات عامة عن الترجمة
إن الكتاب متكون من ثلاثة أجزاء صغيرة الأحجام (130 184مم)؛ جميع عدد الصفحات: 456؛ وجميع عدد الرموز: 120000؛ طبعتها المؤسسة الإسلامية في كين عام 1947 الميلادي.
ب - منهج الترجمة:
إن الترجمة عمل إبداعي يستهدف صاحبها نقل معان من لغة إلى أخرى كي يفهمها أهلها، والقائم بكل ترجمة له منهج يلتزم به، فقد بيّن الشيخ صالح منهجه للترجمة حيث قال:
1- يكفي لترجمة الكتب العامة أن يعبّر صاحبها بما شاء من العبارات ما دام المعنى المعبر عنه صحيحاً، إلا أن الكتب السماوية لا بد من الاهتمام البالغ بظواهرها احتراما للكتب وإظهاراً لحكمها؛
- 2لكل من الكلمات الصينية والعربية خصائص ومميزات، فلا بد من التدقيق عند اختيار الكلمة في أثناء الترجمة، ثم تركها بعد الانتهاء منها لمدة نصف شهر ينظر فيها، ولا يجوز التكلف ولا التساهل على حساب المعاني؛
3 - إن معاني القرآن منقولة من جيل إلى آخر عن الطريقة الشفوية فيما بين مسلمي الصين، وبالرغم من أهمية تلك الطريقة في استمرار الإسلام إلا أن لها سلبيات لا ينبغي الإهمال بها، منها محدودية النطاق حيث لا يستفيد منها إلا عدد
محدود من الناس؛ ومنها أن الأخطاء قد تتسرب إليها فتؤدي الناس إلى الفهم الخاطئ، فلا بد وأن ندقق النظر ونحقق المعاني بالبحث في المعاجم والقواميس مع مراجعة كتب التفاسير المعتبرة؛
4- يجب أن تكون لغة الترجمة وسطا بين التعمق والبساطة ، فهي ليست متعمقة لا يفهمها العوام، ولا بسيطة يستخفها الخواص.
وهذا ما قاله الشيخ باختصار.
ج - خصائص الترجمة
يلاحظ من خلال قراءة ترجمة الشيخ أن لها خصائص تالية:
1 - كلاسيكية المباني مع مهابة المعاني:
بدأت اللغة الصينية الحديثة تنشر في أيام الشيخ صالح وتحل محل الصينية الكلاسيكية، ولكن الشيخ فضّل الكلاسيكية على الحديثة مما جعل الترجمة تبدو كلاسيكية مهيبة رائعة ذات خصيصة فريدة تتميز بها عن سائر ترجمات القرآن الكريم باللغة الصينية.
2 - مراعاة أسلوب النص القرآني مع الدقة في اختيار الكلمات وصقل الجمل:
والترجمة نوعان: حرفية ومعنوية كما هو المعروف لدى الجميع، واختار الشيخ الترجمة الحرفية بمعنى أن يكون معنى الكلمة التي اختارها موافقا تماماً مع ظاهر معنى الكلمة العربية التي يريد ترجمتها، فحروف الجر الواردة في القرآن (ب، في، على مثلاً)، عبّر الشيخ عن معانيها برموز صينية معينة لا يتعدى إلى غيرها، فحرفا على وفي مثلا، يترجمها الشيخ دائما بالرمز (زاي) وكذلك الحال عند اختيار الكلمات وصقل الجمل، فإنه يختار ما هو موافق معناها تماما مع معنى الكلمة العربية، ولا يتعدى إلى غيرها من الكلمات. كما يراعي الشيخ أسلوب القرآن الكريم عند تركيب الكلمات في الجمل بقدر المستطاع، وهذا واضح لمن يقرأ الترجمة، فقوله تعالى وما يذّكّر إلا أولو الألباب على سبيل المثال، يعتبر عادة كلمة (ما) و (إلا) أداة قصر، فيوضع ترجمة (أولو الألباب) - وهي الفاعل - قبل (يّذكّر) - وهي الفعل - ولكن الشيخ ترجم قوله تعالى: (وما يذكر) كفعل نفي، وترجم قوله تعالى: إلا أولوا الألباب كأداة استثناء ومستثنى، وذلك مراعة لأسلوب القرآن الكريم في ترتيب الكلمات.
3 - البساطة في التعبير مع الغنى في المعاني:
ومن خصائص اللغة الصينية الكلاسيكية بالمقارنة إلى الصينية الحديثة أن الأولى يكفي فيها رمز واحد للتعبير عن شيء، بينما أن الأخيرة تحتاج إلى رمزين ليعبر بها عن نفس الشيء، فكل من العين والأذن مثلا، يعبر في الصينية الحديثة بالرمزين (يان جينغ وآر دوه)، وفي الكلاسيكية برمز واحد (موو، آر) مما يجعل الترجمة قليلة الرموز مع عدم التنقيص في المعاني. ومن المعروف أن عدد الرموز في ترجمة مكين المرحوم - وهي أشهر ترجمات القرآن باللغة الصينية إلى حد اليوم - 220000 رمز بينما أن عددها في ترجمة الشيخ صالح 120000 رمز فقط.
4 - ترجمة صوتية لبعض الأسماء الواردة في القرآن:
لقد اتخذ الشيخ ترجمة صوتية عند ترجمة بعض الأسماء، وذلك بنقل صوت كلمة عربية إلى القارئ برمز صيني ينطق بصوت قريب من لفظ تلك الكلمة العربية، كالجحيم وجهنم واليهود وغيرها، وهذا نادر في سائر الترجمات، مما صار
خصيصة بارزة لهذه الترجمة.
ثالثاً: ثناء العلماء على الشيخ صالح وتقديرهم لترجمته
لقد أسهم الشيخ صالح يانغ جينغ شيو إسهاماً ملحوظاً في إصلاح التربية في المساجد والدعوة إلى الوعي الثقافي وغير ذلك من المجالات، فنال من العلماء المعاصرين له ومن جاء بعده تقديراً عظيماً وثناءً بالغاً، حيث قال زميله وانغ جينغ جاي - أحد كبار العلماء الأربعة في عهد الصين الوطنية - عند حديثه عن علماء اللغة العربية في الصين قديما وحديثا: أما علماء اليوم، فأولهم يانغ جينغ شيو في تيان جين، انتهى كلامه؛ وقال جانغ تسي وون - معاصر آخر للشيخ - عند تعزيته لأهل الشيخ صالح لما توفي رحمه الله تعالى حيث قال فيها: لم يظهر مثله في خلال مائة عام مضت، انتهى كلامه.
أما بالنسبة لترجمته، فقد قام المرحوم لين سونغ بدراسة جادة عنها، فوصف صاحبها بأنه دقيق في اختيار الكلمات وصقل الجمل، رفيع الذوق، جليل القدر، كما وصف ترجمته بأنها عمل فريد يمثّل مستوى عاليا يتجلى نوره في تاريخ ترجمة القرآن الكريم.
أقول: إن عمل الإنسان - مهما أحسن - لا يكون كاملا يخلو مما يعاب عليه، وكذلك الأمر بالنسبة لترجمة الشيخ صالح، فإنها تكلم فيها من تكلم، لسبب أو آخر، ولكنها في نظري عظيمة الشأن، جليلة القدر، أعجبتني لغة صاحبها الكلاسيكية، ودقته في التعبير، فصارت من أحب الكتب باللغة الصينية عندي مع صعوبة القراءة والفهم على عوام الناس اليوم.
ختام البحث: إن الشيخ صالح كان مصلحاً اجتماعياً ومجدداً دينياً قدم بإسهامات جليلة وخدمات مشكورة من أجل أبناء ديانته ومجتمع وطنه، فهو رجل يستحق التقدير والاحترام من قبل أبناء قوميته وأبناء بلاده، كما أن أفكاره الدينية والإصلاحية جديرة بدراسات جادة يتولاها الباحثون في هذا المجال.
........
أستاذ في كلية الدراسات الأجنبية، جامعة قوانغ تشو - جمهورية الصين الشعبية