زهور وحيدة

  • 2020-Mar-17

اليوم تفتحت وردة رائعة في حديقة بيتي ورغم كونها وحيدة بين النباتات فقد تميزت بعلوها على كل ما في الحديقة وتفاءلت فيها  لأنها صادفت يوم مولدي في اذار. اكاد لا اصدق ان سنون العمر المتدافعة قد مرت  متقلبة مسرعة  كطائر السنونو  ...لا اصدق اني قد عشت في اوربا اكثر من حياتي في مسقط رأسي في العراق  الذي لا ازال اشتاق اليه شوق الجنين  اذا اشرأب من الظلام الى الضياء . وأريج هذه الوردة غريب ..فهو  يذكرني برجل ترك بصمته في  دفتر حياتي رغم قصر معرفتي به ذلك هو البروفسور ننيان سمارت الذي كنت اسمع عنه كأكبر اسم في علم الدراسات الدينية المقارنة .

 

ذلك الكاتب الاسكتلندي الرائع الذي تزدحم المكتبة بما كتب ولكنه اشتهر كثيرا بكتاب طبع عشرات المرات وهو كتاب "التجربة الدينية للنوع الإنساني " التقيت به في اول حياتي الاكاديمية وأنا طالب دكتوراه في جامعة مانشستر. كان لقائي به في لجنة المقابلات على عمل قدمت له في جامعة لانكاستر..في قسم الاديان التي تبعد عن جامعتي في مانشستر حوالي الساعة بالقطار. وكنت ثاني المتقابلين لوظيفة استاذ مساعد في القسم    نظر الي الرجل نظرة عميقة لا ازال اتذكر معها عمق البحر ولونه ، ثم قال: ماهو رأيك بالغزالي ؟ قلت اي غزالي تقصد..الفقيه ام الفيلسوف ام الصوفي ام الاديب ام الناقد..وكدت استرسل ..فقال على رسلك...انا اعرفه كاتبا صوفيا عظيما، كتب احياء العلوم..فقلت بشي من حدة: ربما... وانا اعرفه ايضا  كفقيه بز الفقهاء بعلمه.وقدرته كفقيه وأصولي..فتغير وجهه..وقال كيف؟..قلت: كتابه المنخول في علم الاصول يتمنى افقه الناس ان يكونوا قد كتبوا مثله فسكت كالغاضب وبدا يسألني اسئلة مختلفة...عن السياسة والدين وأسرتي ورسالتي للدكتوراه التي اكتبها في قانون السوق في الاسلام الخ  ..ثم انتهت المقابلة وانأ متيقن اني لن انال الوظيفة  فلم انتظر لاني اريد ادراك قطار الساعة الثامنة لأعود .

 

 وكنت ا احسب اني اغضبته بالتقليل من رأيه ومن حدتي في الرد عليه وهو من هو..وكنت على وشك الخروج وانأ ارى طابور الذين استدعوا للوظيفة من حملة الدكتوراة وكلهم بيض وعيونهم زرقاء مثله..وكلهم يرتدي بدلة جميلة وحذاءا لامعا وأنا البس بدلة بدون كرافاته وحذاء كانه مداس الطنبوري...كنت اهم بالخروج..حين قالت لي السكرتيرة..انتظر لان بروف يريد ان يراك..وعدت الى مكتبه..ونظر الي وابتسامته يخفيها الغليون وقال..الغزالي فقيه..هاه.؟.فابتسمت وقلت اسف ان كانت لهجتي فجة فقد فاجئتني بالسؤال عن علم لا يعرفه الكثير في غرب الارض.فقال..انتم العراقيون...تشبهوننا نحن الاسكتلنديين بالحدة ولكن بلدكم هو مهد الحضارات...واريد تحدثني عن الغزالي الفقيه..وبقينا نتحدث ساعتين حتى الساعة. الثامنة..وكان اخر قطار للعودة هو في الثامنة..فقال الوظيفة لك وكانت هذه اول وظيفة استاذ احصل عليها قبل الدكتوراه.

 

وكانت المشكلة كيف اعود. إلا  ان الرجل كان قد فكر بالأمر فقال:اعرف ان قطار الثامنة قد فاتك..ولذا فسوف اخذك الى فندق متواضع..كانت مفاجأة لم اتوقعها..حين اخذني الى خارج المدينة..الى قصر جميل صغير تملؤه السناجب و عشرات الورود التي مثل وردتي تشم اريجها في كل مكان ثم قال لي ..انت ضيفنا... وعرفني على اسرته وزوجته الايطالية التي كانت نموذجا للسيدة الاوربية المهذبة او الليدي التي تلبس باحتشام وتفكر في كل كلمة تقول..اذكر انها قالت لي هل تعلم  انك وزوجي ولدتما في شهر واحد .وفي الصباح كان موضوع العبادة وشكر الله هو الموضوع الذي فتحه ونحن نتناول طعام الافطار ..فرويت له حديث ابي ذر

الغفاري  عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أُطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنتهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )

اصغى الرجل بإمعان ثم قال  الاسلام دين عظيم رائع تحدثت عنه في كتبي كثيرا وأنا اعتقد ان فهم اي دين لابد لدارسه ان يدخل في احداثه ويكون جزءا منه لأن الدين لا يمكن معرفته أبدا إلا من خلال ممارسته.

 

وأحسب أن الرجل محق فيما يقول ولكن أين تبدأ وتنتهي هذه الممارسة..ومن الذي يحدد حدود دين ما..فنحن مسلموا أوربا نعيش كغيرنا من الناس في حدود ما ترسمه لنا الدولة الديمقراطية وديمقراطية بريطانيا و اوربا ترتعشان اليوم امام مشكلة خروج بريطانيا من اوربا وهو حدث يمثل أكبر تهديد للديمقراطية مرت به بريطانيا في تاريخها حدث شقت به بريطانيا وانقسم فيه البرلمان وأعلنت رئيسة الوزراء استقالتها بسببه.

 

وتيريزا ماي امرأة تستحق الاحترام لأنها تؤمن بتحقيق ما يريده غالبية الجمهور وان خالف رأيها وان كانت الغالبية قليلة . فمن المعروف ان ماي  شخصيا لا تؤمن بالخروج من اوربا لكنها كافحت بشتى السبل لتحقيق صفقة الخروج لكنها لم تفلح بالحصول على موافقة البرلمان فاستقالت. وبرى الكثير من المفكرين الرافضين للديمقراطية  ان المشكلة لا تكمن فيها ولكنها تكمن في الديمقراطية ذاتها. لأن الديمقراطية

تعطي الخيار للغالبية العددية دون مراعاة لنسبة الفرق بين الطرفين.

 

 اما المسلمين في بريطانيا فهم في حيرة من الامر في مشكلة الخروج من اوربا واغلبهم يود البقاء فيها ولكنهم كراكب السفينة التي حصل فيها عصيان يريد ان يغير وجهتها. لان الخروج من اوربا في نظري لا يحقق لبريطانيا شيئا اكثر من استقلالية السيادة فتتخذ قراراتها السياسية والاقتصادية والبيئية دون تأثير من اوروبا. ولكن وجودها في اوروبا اصلا ينفعها نفعا ما بعده نفع وهي عضو رئيس فيها وفي قراراتها. ولعل فوز حزب الخروج او البركزت -في تمثيل  بريطانيا في برلمان اوربا لما تبقى من وقت - هو اكبر دليل على رغبة الشار ع بالخروج لا لشيء إلا من اجل أحلام الإمبراطورية التي لا تغيب عنه الشمس .

 

ومصير المسلمين في سفر الخروج هذا مبهم جدا لان من يريد الخروج هم اكثرهم من اليمينين الذين يدعون لخروج الاجانب من بريطانيا. والمسلمون استطاعوا ان يحققوا في بريطانيا مالم يحققوه في بلد اخر.فمنهم شخصيات ووجوه من الطراز الاول مثل وزير الداخلية سابق ووزير الخزانة الحالي ومنهم عمدة لندن.

 ولكن مشكلتهم انهم لا ينطلقوا من منطلق ينظر الى كيانهم كمسلمين ولذا فهم ليسوا سوى احجار على رقعة الشطرنج برغم كل ما حققوه من إنجازات فردية محضة فهم أشبه بزهور حديقتي التي تنمو منفردة بنفسها.

.

وقد يقول قائل هل ان الدولة الدينية هي البديل في نظرك.اقول لا..لان الدين لا يفهمه الناس ولا يطبقونه كما يريد الله بل كما تريد رغباتهم وأطماعهم إلا من رحم الله .ولا اريد ان انظر الى تاريخ الدين الاسلامي وما فيه من احداث معقدة جسام لا يجدر لأحد   ان يحللها وهو يعيش داخلها.. بل لو نظرت الى تاريخ الدين في بريطانيا وكيف انتقلت سلطة الدين من البابا الى الكنيسة الانجليزية واستقلت عن الاولى لوجدنا ان المصلحة البشرية كانت هي العنصر الرئيسي الذي تحكم بالأحداث التي انتهت بمقتل توماس بيكيت اخر ممثل للكنيسة الكاثوليكية في بريطانيا سنة 1179. فالدين هو اعظم ما يدخل قلب ابن ادم ولكن من الذي يقوم بتطبيقه وكيف؟..بيكيت كان صديق الملك هنري الثاني المقرب ونديمه الحبيب  نصّبه كبيرا لأساقفة بريطانيا وهو يحسبه انه سوف يبصم له على كل مايريد.

 ولكن سرعان ما انقلب على سيده عندما كبر رأسه بأحلام القوة وأوهام التقوى التي راودته  مع منصب  "ممثل الله في الارض "  و من يستخدم الدين ليحكم البلاد يقع في نفس الأحلام الا الأنبياء والصديقين وهم ليسوا سوى زهور وحيدة لا تعيش في كل مكان ولا زمان.




اشترك

اشترك في القائمة البريدية لتبقى علي تواصل دائم معنا