
السوابق التاريخية لاندماج المسلمين في مجتمع سريلانكا
- 2020-Mar-17
أسعى إلى تحديد بعض السوابق التاريخية وراء أسباب نجاح المسلمين السريلانكيين إلى حد كبير في الاندماج بالمجتمع وكيفية تحقيقهم ذلك في ظل اندلاع أحداث العنف الشنيعة يوم عيد الفصح الماضي، أي بتاريخ 20 أبريل 2019، على أيدي مجموعة من المتطرفين المسلمين ضد الكنائس والفنادق الدولية. لقد هزت الأحداث العنيفة أسس الاندماج الوطني التي تشكلت بين مختلف أطياف المجتمع على مدار أكثر من ألف عام في الماضي. إلا أن المجتمع السريلانكي يتميز بمرونته نظرًا لأن سكان الجزيرة لم يسمحوا بتمزق نسيجهم المجتمعي بعد وقوع أي أزمات مماثلة، إن لم تكن أسوأ، بسبب التوترات العرقية المحلية.
وفقًا للتعداد السكاني في سريلانكا لعام 2012، يشكل البوذيون نسبة 70.1٪ من إجمالي عدد السكان، إلى جانب وجود الهندوس بنسبة 12.6٪، والمسلمين بنسبة 9.3٪ والمسيحيين بنسبة 7.6٪. ويشكل المسلمون "المور" الذين يتحدثون اللغة التاميلية أكبر مجموعة (حوالي 95 في المائة)، بينما جاء الآخرون مع الحركة الاستعمارية منذ القرن السابع عشر، بما في ذلك أقلية صغيرة من مسلمي "الملايو" و"الميمون" و"البوراهس" و"الخوجة" من الهند، والذين أصبحوا معروفين جماعيًا باسم المسلمين السريلانكيين.
من الناحية التاريخية، فقد تأصل الإسلام في سريلانكا منذ القرن العاشر الميلادي. فجذبت سريلانكا التي كانت معروفة لدى العرب آنذاك باسم "سرنديب"، باعتبارها جزيرة ذات موقع استراتيجي تقع في منتصف المحيط الهندي، جميع أنواع البحّارة والتجار الدوليين، وخاصة العرب المسلمين والإيرانيين ونسلهم من جنوب الهند الذين انخرطوا بشكل رئيسي في أنشطة التجارة. وعلى عكس الإمبراطوريات الإسلامية العظيمة التي شهدتها شمال الهند بعد الفتح الإسلامي، أو إمارات جنوب الهند المحلية التي خضعت لسيطرة المغول أو الديكان، لم تشهد سريلانكا ظهور أي مملكة أو نظام إسلامي على أرضها.
عاش المسلمون السريلانكيون تحت رعاية السنهاليين القوية خلال عدة فترات لحكم الأسر الحاكمة، وكان ذلك حتى قدوم البرتغاليين الغزاة الذين وصلوا إلى سريلانكا في عام 1506. وعلى عكس الأحوال خلال فترة حكم السنهاليين، فقد تعرض مجتمع التاميل من المسلمين العرب للاضطهاد لأسباب تجارية ودينية من قبل المستعمرين البرتغاليون والهولنديين على حد سواء خلال عامي 1506 و1656. إلا أن المسلمين "المور" تمسكوا بإيمانهم وتقاليدهم وأسلوب حياتهم على الرغم من الاضطهاد الشديد الذي تعرضوا له. كما وفر الحكام السنهاليون المحليون سبل الحماية من المستعمرين الأجانب التي كان المسلمون في أمس الحاجة إليها، وذلك خوفًا من فناء رعاياهم من المسلمين. وهكذا، ساعد الحكام السنهاليون المسلمين على الاستقرار في العديد من المناطق داخل ممالكهم، وخاصة في الساحل الشرقي الذي يضم الآن عددًا كبيرًا من السكان المسلمين. وشرع المسلمون في تولي الأعمال الزراعية بشكل رئيسي، حتى أصبحت سريلانكا من أهم مصادر الحبوب في الشرق.
وفي المقابل، قدم المسلمون المساعدة للحكام السنهاليين خلال تعاملاتهم مع الحكومات الأجنبية، بما في ذلك الزامورين بكاليكوت في الهند، في سبيل تعزيز حركة التصدير من الجزيرة. والأهم من ذلك أن المسلمين قد عملوا كوكلاء لنقل بضائع السنهاليين إلى الأسواق التي يتردد عليها التجار العرب والفرس والسلانغور والهنود. كذلك تطوع المسلمون بالمشاركة في الاحتفالات السنهالية البوذية التي كانت تقام عادةً في معابدهم لمرافقة عازفي الطبول والراقصين خلال مهرجان بيراهيرا السنوي (احتفالات المواكب الدينية). سجلت الأستاذة "لورنا ديواراجا"، المؤرخة السنهالية الشهيرة، هذه الحقائق في كتابها الصادر بعنوان "المسلمون والمملكة الكاندية" (Muslims and the Kandyan Kingdom). وفي المقام الأول، عمل المتخصصون المسلمون في مجال الطـب الذي يمارسه السكان الأصليون، وخاصة الطب المثلي، كأطباء ملكيين في المحاكم السنهالية. وهكذا كانت الروابط التاريخية بين الشعب السنهالي المحلي والمستوطنين المسلمين في الماضي. ونادرًا ما كان يتدخل السنهاليون البوذيون في الممارسات الدينية للمسلمين، بما في ذلك بناء المساجد وإقامة المستوطنات والحلقات الدراسية الدينية مثل "المدارس الدينية".
استمرت النوايا الحسنة في الازدهار بين مختلف طيات المجتمع، ولكن ليس دون وقوع مشاكل، في ظل الحكم البريطاني (1798 - 1948). وفي ظل الحكم الاستعماري، شعر غالبية البوذيين في البلد، صوابًا أو خطأً، بفقدان أهميتهم وتغلب الأقليات، بما في ذلك المسلمين، عليهم في التجارة والتعليم والمجالات المهنية الأخرى. على سبيل المثال، اندلعت أعمال شغب كبيرة في عام 1915 معادية للمسلمين، وخاصة ضد الموريين الذين وصلوا حديثًا إلى سواحل الجزيرة وانتشروا في كل أنحائها من خلال الانخراط في جميع أنشطة التجارة البسيطة.
لم يشكل ظهور القومية البوذية خلال القرن التاسع عشر تحديًا أمام الهيمنة الاستعمارية فحسب، بل عرقل أيضًا حركة المسلمين، خاصة في الأنشطة التجارية في البلد. ومع ذلك، ظل المسلمون قادرين على الحفاظ على توازن جيد بين الحياة الاجتماعية والسياسية وسط السنهاليين. كما انضم رجال الدولة المسلمون إلى البوذيين السنهاليين في المقاومة للحصول على استقلال سريلانكا عن الحكم البريطاني في عام 1948. أدى اندلاع أحداث العنف العرقي بين التاميليين في الشمال والشرق الذين طالبوا بالحصول على دولة منفصلة إلى تغيير المشهد السياسي في سريلانكا. وبعد هزيمة مجموعات التاميل الإرهابية "LTTE" في عام 2009 على أيدي الحكومة السنهالية، تعرضت الأقلية المسلمة أيضًا للعديد من الضغوط العرقية. ومن ثم أصبح خوف السنهاليين من ظهور شكل متطرف من الإسلام الذي يبشر به بعض المسلمين المتطرفين يشكل قضية رئيسية مثيرة للقلق في سياسة البلد وحكمها.
تشير كافة الدلائل إلى أن السياسيين والمهنيين والطبقة العاملة وغيرهم من المسلمين يرغبون في مواصلة أسلوب حياتهم المتناغم مع الحفاظ على حسن الجوار مع الأغلبية البوذية في سريلانكا. فقد فتح المسلمون أبواب مساجدهم ومؤسساتهم أمام الناس على عكس ما سبق، كما شاركوا في الحوار الإيديولوجي البوذي الإسلامي بحماسة واهتمام. ويجب على المسلمين، باعتبارهم أقلية في البلد، مراعاة عدم إثارة مشاعر الغالبية العظمى من السكان السنهاليين من خلال اتباع أساليب الحياة والسلوكيات المختلفة بشكل مبالغ فيه. بالإضافة إلى ذلك، يتعين على السياسيين المسلمين على وجه التحديد اتخاذ خطوات حذرة للغاية في سبيل الحفاظ على التوازن الجيد الذي يميز النظام الديمقراطي السريلانكي. لا شك أن المسؤولية تقع بالكامل على عاتق المسلمين السريلانكيين في أن يعيشوا حياة نموذجية يقتدى بها ليس فقط كمسلمين صالحين، ولكن كمواطنين صالحين أيضًا يأخذون في عين الاعتبار أوجه الحساسية للطوائف الأخرى، وخاصة الطائفة البوذية السنهالية. تمثل حقيقة عدم اندلاع أعمال شغب جماعية كبيرة كما كان يُخشى في أعقاب أعمال العنف التي وقعت خلال عيد الفصح، والتي أودت بحياة ما يزيد عن 250 من السنهاليين، إشارة واضحة إلى وجود قدر كبير من التسامح في المجتمع السريلانكي ككل، وأن الأمر يعود للطائفة المسلمة في التوصل إلى طرق ووسائل للعيش بتفاهم وتعاون مع الأغلبية السنهالية في البلد. لا شك أن المستقبل لا يزال مشرقًا بالنسبة للمسلمين، خاصة بعد أن استطاعوا مواصلة العيش في وئام والاندماج بقوة في شعب سريلانكا في الماضي.
الأستاذ/ بي. إيه. حسينميا
أستاذ التاريخ بجامعة جنوب شرق سريلانكا