
المحبة عند الكونفشية والإسلام.. دراسة مقارنة
- 2019-Oct-30
دخلت البشرية مرة أخرى في المصائب منذ الثمانينات من القرن العشرين، وخاصة الدول العربية والعالم الإسلامي.
ويعاني خلق كبير من فتنة الحروب والقتل وما يترتب على ذلك من هدم الديار وهلاك الأرواح والالتجاء خارج الوطن والابتلاء داخل البلد وأوشك أن يصبح كل هذه المظاهر أمورا عادية لزماننا هذا.
وأمام هذا العصر المضطرب، اضطر الناس إلى التفكر والسعي لإيجاد طريقة جديدة من أجل إعادة النظام العالمي. وقد حاول بعضهم أن يستخدموا القوة العسكرية لقهر الناس على السكوت والاستقرار الظاهري، بينما البعض الآخر سار على نشر أفكارهم وقيمهم للسيطرة على عقول الأخرين وأجسادهم. ولكن يبدو أن اثنين من الأساليب الهيمنة لم ينالا نجاحاً في نهاية المطاف. وأخيراً ظهر طريق واحد يشرق فيه ضوء الأمل أمام الناس، وهو طريق الحوار بين الحضارات والأمم.
إن الأمة الصينية والأمة العربية هما من الأمم القديمة المتحضرة، ولهما تاريخ طويل وحضارة عريقة وتراث ثمين وقد احتلتا مكانة رفيعة من بين الأقوام وتمتعتا بسمعة حميدة عند الأمم. وكان لهما مهمة مشتركة لتوجيه الناس إلى الرشد والسداد، ولذلك طرح كل منهما آراء إيجابية لحفظ العلاقات الشخصية وثبوت النظام الاجتماعي.
ومن المعروف أن الكونفوشية هي خلاصة الحضارة الصينية، بينما الإسلام هو جوهر الحضارة العربية، وكل منهما يحتوي على عديد من الأفكار التي تتعلق بتوجيه مصير الإنسان وإصلاحه، وقد تصل أحياناً إلى الاتفاق التام بينهما كما كان لديهما آراء فريدة حول نظرية العالم والمجتمع والفرد. وهذا قد أرسى أساساً متيناً للحوار بينهما، من أجل تبادل الأفكار والقيم والمفاهيم بين الحضارتين، ويؤدي ذلك إلى الاحترام والتعارف بين الأمتين العظيمتين.
وقد اهتمت الحضارتان الكونفوشية والإسلامية بمفهوم المحبة منذ القديم ولا تزال المحبة مسألة ذات أهمية كبيرة في التقاليد الكونفوشية والإسلامية. ولكن من الأسف الشديد أن زماننا هذا تنقص فيه المحبة والمودة بين الأشخاص والأجناس حتى بين أفراد الأسرة، ولذلك فإن التأكيد على المحبة والدعوة إليها أصبح صوتاً عصريا بالضرورة. ولعل الحوار حول المحبة قد يقدم للعالم وسيلة فعالة لإنقاذ البشر من البؤس والشقاوة ويمهد له طريقاً جديداً لتخلص الناس من المعاناة والمشقات في القرن الواحد والعشرين.
المحبة عند الكونفوشية هي مصطلح خاص ومفهوم هام في الثقافة الكونفوشية، إذ تراها جوهر الأخلاق وأساس مبادئ السلوك وتبني عليها العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات.
ويرى بعض العلماء أن جميع أفكار الكونفوشية تدور حول نظرية المحبة. وفي الحقيقة أن المحبة هي جوهر الأخلاق وأصلها عند الكونفوشية. حيث ترى الكونفوشية أن الأخلاق كلها نشأت من المحبة كما قال بعض علماء الكونفوشية "إن المحبة هي الخلق الكامل"، وقد بلغ الأمر إلى أن الكونفوشية جعلت المحبة المعيار الأساسي للإنسان، إذ ترى أن الإنسان لا يغاير الجمادات إلا بها كما قال الكتاب التراثي الكونفوشي "إن المحبة هي الإنسانية".
والإسلام يعتبر دين السلامة ودين الرحمة كما دلّ عليه اسمه وما بينه كتابه، فالرسالة الإسلامية هي توصيل الرحمة إلى جميع الكائنات. ولذلك، لا يخلو في الإسلام من القيم والأخلاق التي تعبر عن معني المحبة. ولعل كلمة الرحمة في الإسلام أقرب إلى مفهوم المحبة الكنفوشية. والقرآن مليء بهذه المعاني وكذلك الحديث النبوي.
ويرى الإسلام أن المحبة صفة من صفات الله، فيجب على العباد أن يتخلقوا بها. والمحبة في الإسلام قد تنقسم قسمين: المحبة الفطرية والمحبة الشرعية. فالمحبة الفطرية هي التي يحب فيها الإنسان الشيء بمقتضى فطرته، كحب الإنسان للنوم والطعام والشراب والولد والمال والكرم والجمال، وأما المحبة الشرعية فهي ما أمر به الشارع على وجه الوجوب أو الاستحسان كحب الناس لله ولرسوله وللفقراء، والقسمان معترفان ومقبولان لدى الإسلام، إلا أن الإسلام وضع بعض الحدود والقيود للمحبة الفطرية.
المحبة عند الكونفوشية هي شعور طبيعي للإنسان، فهي ناشئة من نفوس الناس حين وجد ما يسرهم وما يرضيهم، فهي تعبر عن مشاعر حقيقية للإنسان، وهو الامتنان والشكر الذي يجده الأولاد في نفوسهم نحو الوالدين، باعتبارهما مصدر الحياة. ولا يخفى على أحد أن الحياة هي أثمن ما يمتلكه الإنسان، فلا نعمة أكبر من نعمة الحياة. ومن ثم كان معطي الحياة هو أحق أن يشكر ويقدر، وأصبح حب الوالدين ما فطر على نفس الإنسان. ولذلك، تبني الكونفوشية أخلاقها على أساس المحبة.
الإسلام دين مبني على أساس العبادة لله والإخلاص له، والله هو المحور الوحيد في عقائد الإسلام وأفكاره وقيمه. ومن مقتضى هذه العقيدة أن تكون المحبة قبل كل شيء موجهة إلى الله وقد أمر الإسلام بحب الله.
ومن جانب آخر، يعترف الإسلام بمصدرية عاطفة الشكر للمحبة، فكما أن المحبة عند الكونفوشية ناشئة عن الامتنان والشكر للوالدين على نعمة الحياة كانت المحبة في الإسلام مبنية على الشكر لله، لأنه حسب عقائد الإسلام خالق الحياة وقد خلق الله الحياة والممات وخلق حياة الآباء كما خلق حياة الأبناء وخلق كل شيء في الكون. فنعمة الخلق تقتضي الشكر والتقدير والمحبة. ولذلك، جعل الإسلام الحب لله نوعاً من العبادة له. وبما أن جميع الأشياء في العالم مخلوق لله ينبغي على الإنسان أن يحب لوجه الله كل ما له علاقة مع الله. ومن هنا نشأت الأخلاق في الإسلام.
ترى الكونفوشية أن بر الوالدين رأس الأخلاق، ومنه تتوسع دائرة المحبة فأقرب الناس إلى الوالدين هم من تولد منهما من الأولاد. ولذلك، كان من حق الأولاد أن يتحابوا بينهم من أجل الوالدين وخاصة يحترم الصغير كبيرهم، فحب الإخوة تابع لبر الوالدين ويحتل مكانة عالية في أخلاق الكونفوشية. ثم تتوسع دائرة المحبة إلى جميع الأقارب، لأنهم بواسطة الوالدين عقدت العلاقة العرقية فيستحق أن يحصل كل فرد من الأقارب على المحبة من الآخر. ثم لم تحصر المحبة الكونفوشية في الإخوة والأقارب بل تتعدي إلى جميع الناس باعتبارهم بني جنسه أو إخوة إنسانية وعبر عنها بالحب العام للجميع. ثم لم تكن المحبة الكونفوشية محصورة في الإنسان فقط بل تجاوزت إلى جميع الكائنات في الطبيعة، بما فيها الحيوان والنباتات والجمادات. قال العالم الكونفوشي منغ تس: "على الناس أن يتقدم من بر الوالدين إلى رحمة الناس ثم من رحمة الناس إلى حب الكائنات."
يرى الإسلام أن أولي وأحق أن يحبه الإنسان في هذه الدنيا هو ما خلق هذا الكون والإنس ورب العالمين وليس هذا الخالق الرب إلا الله الواحد لأنه من كريم خصاله وعظيم جوده أنعم على العباد صنوف الخير والنعم ومن عليهم بالطيبات والحسنات مما توجب المحبة له عقلً وشرعاً. ثم تتعدى المحبة الإسلامية إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بمقتضي أمر الله. ثم بمقتضى الرحمة للعالمين لم يغفل الإسلام عن حقوق الإنسان والكائنات فالمحية الإسلامية تشمل حب الوالدين باعتبارهما سبب الحياة ومصدرها ثم حب الأهل من الأزواج والأولاد للعاطفة الفطرية وحب ذوي القربي للعلاقة العرقية ثم حب المؤمنين للعلاقة الإيمانية. ولم تتوقف المحبة الإسلامية في داخل من الإنسان بل تتعدي إلى جميع الأشياء في الطبيعة منها الحيوان والنباتات والجمادات.
يبدو أن التشابه بين الحضارة الكونفوشية والحضارة الإسلامية في معني المحبة وأبعادها واضح حتى وصل إلى التوافق في بعض الجوانب. وقد لاحظ هذا التشابه علماء المسلمين في الصين منذ القديم وتكلموا فيه بقدر الكفاية في كتبهم حتى قيل إن هذا التشابه جاء من كون الحضارتين ناشئتان من الوحي الإلهي. فكما أن الإسلام هو ما أوحاه الله على نبيه محمد كانت الكونفوشية هي موحية على القدماء الصينيين أو من بقايا الوحي السابق في العصور القديمة. فلا غرابة في التشابه والتقارب بين الحضارتين في بعض المفاهيم لوحدة مصدرهما. ولكن إذا تتبعنا خصائص الحضارتين بالدقة نجد هناك اختلافاً بيناً، ولم يكن الاختلاف في الفروع بل في الجذور، وعلى سبيل المثال أن المحبة الكونفوشية تصدر عن الامتنان للوالدين ثم تتعدى إلى جميع الناس والكائنات. ومن هذه الفكرة اتضح لنا أن الكونفوشية تمتاز بخاصية الإنسانية أو خاصية المحورية الإنسانية وتتخذ الإنسان مبدأ أو محوراً أساسياً لتأسيس أفكارها الفلسفية، بينما يرى الإسلام أن المحبة ناشئة من الشكر لخالق الحياة باعتباره مصدر الكون، فالمحبة الإسلامية تبدأ من حب الله ثم تتعدى إلى جميع الناس والكائنات، ويتضح لنا من هذا أن المحبة الإسلامية تمتاز بخاصية الإلهية أو خاصية المحورية الإلهية، حيث إن الله هو الأصل الوحيد والمحور الأساسي في جميع الأفكار الإسلامية ونظرياته.
إن الحضارة الصينية والحضارة العربية الإسلامية هما من أشهر الحضارات العالمية وأهمها، وقد تركتا أثراً عميقاً على العالم في الماضي والحاضر وقد يكون أثرهما أكبر في المستقبل مع مرور الأيام. ولا يخفى على أحد أن الأمة الصينية قامت من بين الأمم واشتهرت بتقدم علومها وتكنولوجياتها وبكثرة عدد سكانها واجتهادها كما اشتهرت كذلك الأمة العربية والإسلامية بانتشارها في العالم شرقاً وغرباً وبازدياد عددها وبكثرة حيويتها، فصارت الحضارتان معروفتين لدى الناس وتأثيرهما على العالم ملحوظاً. ولذلك الدراسة عن أهم أفكارهما أصبحت من متطلبات العصر وخاصة تلك الأفكار التي تتعلق بمسيرة العالم ومصير البشرية.
من المحظوظ أن الحضارتين قدمتا لنا أفكاراً إيجابية وآراءً بنائية لتقدم المجتمعات وتمدن الشعوب. ومن هذه الأفكار نظرية المحبة التي يعم نفعها جميع الكائنات. بالرغم من اختلاف حقيقة الحضارتين وخصائصهما إلا أن مظاهر المحبة ووسائلها عندهما تكاد يتوافق بعضها بعضا. وإن الحوار بينهما حول هذه القضية سوف يفتح لنا باباً للتعارف بينهما وهذا النوع من الحوار قد يؤدينا إلى محبة بعضنا بعضا واحترام بعضنا بعضا. ومن المؤكد أن العالم اليوم يحتاج إلى هذا الحوار وقد يلهم هذا للناس أفكاراً لحل الأزمات العصرية ويرشدنا إلى المعايشة السلمية وقد يمهد طريقاً جديداً لتخلص الناس من المعاناة والمشقات في الحاضر والمستقبل.